رياضة

ميلاد المايسترو.. لغز اخفاء رئيس المارد لأحمر لمرضه بالسرطان عن أقرب الناس إليه

:

حلت الثلاثاء الماضي، ذكرى ميلاد أحد أهم لاعبي ومديري الكرة بل ورؤساء النادي الأهلي على مدار تاريخ القلعة الحمراء العريق منذ نشأته عام 1907، والذي ضرب أمثلة عديدة في كيفية خدمة ناديه في مختلف المجالات بما يليق بهذا الصرح الكبير وجماهيريته العريضة، حيث ولد المايسترو صالح سليم، في 11 سبتمبر 1930، ووالده هو الجراح المعروف محمد سليم، ووالدته هي السيدة زين الشرف، التي كان والدها من أشراف مكة المكرمة قبل انتقاله للعيش في تركيا ومنها إلى مصر.

صالح سليم أخذ على عاتقه أن يتحمل وحده آلام المرض اللعين، لقناعته الخاصة بأن هذا شأن يعنيه وحده، ومن غير اللائق أن يزعج به أحدا غيره، بخلاف أنه كان قويا عنيدا، يرفض أن يرى في عيون أحد نظرات العطف والشفقة، ومن ثم التزم الصمت وتحمل وحده معاناته بعيدًا عن محبيه، ورفض المايسترو المتاجرة بالمرض ولم يرضخ لأي شيء تسقط معها مبادئها وقيمها، مهما كان الثمن ومهما كانت المغريات المحيطة به.

قناعات «المايسترو» لم تتبدل حتى بعدما اشتدت عليه الآلام، وبات مضطرا للخضوع لنظام علاجي مكثف، ما ترتب عليه سفره لفترات أطول خارج البلاد، وترك النادي الأهلي، ما أسفر عنه تعرضه للهجوم والنقد، بل إن البعض اتهمه بأن كثرة سفره إلى لندن لأن لديه «بزنس» خاص به هناك، أو لأنه لم يعد يطيق العيش في القاهرة.

رغم كل هذا بقى صالح ثابتًا على موقفه ومقتنعًا بأن كل ما يحدث هو أمر خاص به وحده ولا شأن لأحد غيره به، وليس من الضروري أن يعرف أحد عنه شيئًا، حتى لو كان هذا قد يرفع عنه النقد والهجوم في الفترة الأخيرة قبل وفاته.

صالح سليم رحل عن دنيانا بعدما قضى 4 سنوات عصيبة مع مرض السرطان، الذي علم به عام 1998 في لندن، حيث كان على موعد مع الطبيب الإنجليزي ليتسلم منه نتيجة الفحص الدوري الذي اعتاد أن يجريه كل ستة أشهر.

وفي هذه الرحلة اصطحب معه حفيدته نورا هشام صالح سليم، ووعدها بأن تقضي معه ساعات لطيفة وسعيدة في العاصمة الإنجليزية، وعندما توجه صالح إلى المستشفى لتسلم نتيجة الفحوصات، كانت نورا معه وطلبت منه بعد الانتهاء من زيارة المستشفى، التوجه لأحد المحال الكبرى لأكل الهامبورجر، وأن يذهبا بعدها إلى السينما، ووعدها جدها بتحقيق ما تريده بعد مقابلة طبيبه الإنجليزي في المستشفى.

الطبيب كان حاله مختلفًا عن كل زيارة لم يكن ضاحكًا كما اعتاد أن يراه صالح كل ستة أشهر، وطلب منه الجلوس وأخبره بأن الفحوصات الأخيرة أثبتت مرضه بسرطان الكبد، ورغم صعوبة الخبر فإن المايسترو ظل ثابتًا ولم يهتز وبدا هادئا إلى أبعد حد.

وبمجرد أن بدأ الطبيب في شرح حالته وخطة العلاج في المرحلة المقبلة حتى فوجئ بالمايسترو ينظر في ساعته ووقف وقال له وهو يبتسم: «أستاذنك تأجيل الحديث عن العلاج إلى الغد، لأنني مرتبط بموعد مهم للغاية»، قاطعه الطبيب مندهشًا: «إنها صحتك! أي موعد الذي تتحدث عنه؟!».

عاد صالح سليم ورد قائلًا: «لدي موعد لتناول الطعام وحضور فيلم في السينما مع حفيدتي، لقد وعدتها ولا بد من الوفاء بوعدي، وسأحضر غدًا صباحًا لاستكمال هذا الأمر»، ودون أن ينتظر رد الطبيب خرج وتوجه إلى حفيدته، واصطحبها لتناول الهامبورجر ثم دخلا معًا السينما.

لم يعتقد صالح أن إصابته بالسرطان تكفي لأن يجرح إحساس حفيدته ويحرمها من بهجة كانت تنتظرها بعدما وعدها بهذه النزهة، وعاد صالح في آخر اليوم الطويل إلى بيته ولم يشأ أن يخبر زوجته بمرضه مفضلًا أن يخبرها في الصباح، ليتركها تقضي ليلة هادئة وفي الصباح التالي، قال صالح لزوجته إنه مريض بالسرطان، وكان يتمنى لو لم يخبرها حتى لا يزعجها بهذا المرض، الذي يحمل في طياته بخلاف الآلام الشديدة هموم وأوجاع وعذاب المحيطين.

وفي اليوم التالي توجه صالح إلى المستشفى وناقش مع الطبيب أسلوب علاجه وأوضح له الأطباء أن السرطان ظهر في نصف الكبد ولا يمكن استئصاله، لأن النصف الآخر أصابه التليف نتيجة إصابة قديمة بفيروس “سي”، وطلبوا منه موافقته على التعامل مع المرض بأسلوب علاجي جديد، وهو العلاج الكيماوي الموضعي، أي حقن المادة الكيماوية داخل الكبد نفسه، وفي المنطقة المصابة بالسرطان، على أن يتزامن ذلك مع علاج حراري أيضًا، لقتل الخلايا السرطانية داخل الكبد.

ووافق صالح على العلاج وكتب تعهدًا بأنه المسئول الأول عن اختيار هذا العلاج لو أدى إلى عواقب لم يتوقعها الأطباء، وكان هذا العلاج يستدعي أن يذهب صالح لأطبائه كل ثلاثة أشهر ليقضي معهم يومين في المستشفى يحقنونه خلالهما بالعلاج الكيماوي الموضعي ويخضعونه لأشعة مقطعية لبحث ما إذا بدت خلايا سرطانية جديدة في الكبد أم لا.

مجددا لم يفقد صالح ثباته وعزيمته في مواجهة المرض، لكن ازدادت حالته الصحية سوءا، فانتشرت الخلايا السرطانية إلى خارج الكبد وانتقلت إلى الأمعاء، فاضطر الأطباء إلى إجراء عملية استئصال لأجزاء من الأمعاء، لكن ساءت حالة صالح الصحية ودخل في «غيبوبة متقطعة» إلى أن وافته المنية صباح يوم السادس من مايو عام 2002 عن عمر يناهز 72 عامًا. 

مات صالح لكنه ما زال في قلوب من أحبوه وعشقوه وخلدوه رمزًا لناديهم الكبير بمواقفه الثابتة، فهو شخص من الممكن أن تتفق مع شخصيته أو تختلف معها، لكن من الصعب أن تكرهه أو تنساه فهو شخصية لها طبيعة خاصة جدا.