
حين تصبح السيرة معركة
لم يكن فيلم “الست” مجرد عمل سينمائي جديد، بل تحوّل منذ لحظة الإعلان عنه إلى معركة ثقافية مكتملة الأركان.. معركة بين الذاكرة الجمعية التي صنعت صورة شبه مقدسة لأم كلثوم، وبين رؤية فنية معاصرة أرادت ـ أو هكذا قالت ـ أن تنزع القداسة لتكشف الإنسانة.
لكن السؤال الجوهري الذي تجاهله كثيرون..
هل كل نزع للقداسة كشف؟ أم أن بعضه تشويه ناعم باسم الجرأة؟
أم كلثوم ليست مجرد مطربة عظيمة، بل ظاهرة تاريخية تشكلت في لحظة سياسية وثقافية محددة، وكانت جزءاً من السلطة الرمزية للدولة والمجتمع معاً.. ومن هنا، فإن الاقتراب منها لا يحتمل التساهل، لأن أي اختزال في شخصيتها هو بالضرورة اختزال في عصر كامل.
صناعة الشك..
كيف وُضع الفيلم في قفص الاتهام قبل أن يُشاهد؟
لم يولد الجدل حول فيلم “الست” من فراغ، لكنه أيضاً لم يكن بريئاً بالكامل.. فمنذ الإعلان عن المشروع، دخل العمل في منطقة رمادية بين النقد المشروع والتشكيك المسبق، حيث لم يُمنح فرصة الظهور الطبيعي أمام الجمهور، بل جرى تطويقه بسيل من الصور المفبركة والبوسترات الوهمية والمشاهد المنسوبة زوراً إليه.
هكذا لم يعد النقاش حول الفيلم نقاشاً فنياً بقدر ما صار محاكمة شعبية استباقية، شارك فيها جمهور لم يشاهد العمل، لكنه كوّن رأياً حاسماً عنه.
غير أن الخطر الحقيقي لا يكمن فقط في هذا المناخ العدائي، بل في الطريقة التي بدا أن الفيلم نفسه قد استجاب بها لهذا المناخ، كأنه يحاول تبرير وجوده بدل أن يفرض منطقه الفني.. ومن هنا بدأت المعضلة.. حين يتحول العمل من طرح رؤية إلى الدفاع عن نوايا، يفقد جزءاً من صلابته قبل أن يبدأ.
“الست”.. العنوان الذي خان مدلوله
“الست” في الوجدان المصري ليست كلمة محايدة.. هي لقب سلطة واحترام، يُمنح ولا يُفرض.. أم كلثوم لم تُسمَّ “الست” لأنها امرأة، بل لأنها تجاوزت حدود الأنوثة الاجتماعية إلى موقع القيادة الرمزية..
الفيلم.. استخدم اللقب ليقدم نقيضه.. امرأة مرتبكة، مشروخة، محاصَرة بالخوف، تسير طوال الفيلم وكأنها تشرح نفسها للعالم.. هنا يكمن أول الظلم.. اختيار لحظة أولمبيا.. افتتاح ذكي… ومبتور.. اختيار حفل أولمبيا بعد نكسة 1967 كنقطة انطلاق كان اختياراً ذكياً نظرياً.. فهي لحظة تتقاطع فيها الهزيمة الوطنية مع الانتصار الشخصي.. لكن الفيلم لم يستثمر هذه المفارقة حتى النهاية.
الفجوة السردية بين تهديد أم كلثوم بإلغاء الحفل ووقوفها على المسرح لم تُملأ دراميا.. لم نرَ قراراً، لم نرَ صراعاً داخلياً حاسماً، بل قفزة غير مبررة.. وأم كلثوم، في الحقيقة، لم تكن تقفز فوق قراراتها.. كانت تُحكمها.
السرد غير الخطي.. الذاكرة أم التشتت؟
اعتمد الفيلم على بنية الذاكرة، متنقلاً بين الأزمنة، مستعيناً بالسقوط الجسدي على المسرح كبوابة زمنية.. تقنياً، الاختيار مشروع.. لكن المشكلة ليست في الشكل، بل في زاوية النظر.. الذاكرة هنا لا تستدعي الإنجاز، بل تستدعي الألم.. لا تستدعي لحظات السيطرة، بل لحظات الانكسار.. وكأن الفيلم قرر منذ البداية.. أن يروي سيرة أم كلثوم من الهشاشة لا من القوة.
أم كلثوم الحقيقية.. امرأة السلطة الهادئة
أم كلثوم، تاريخياً، لم تكن امرأة عاطفية سهلة الكسر.. كانت تدير حياتها كمن يدير مؤسسة.. تختار شعراءها بعناية.. تفرض شروطها على الملحنين.. توازن بين الدولة والجمهور دون أن تحترق.. لم تكن تضحك كثيراً في العلن، لكنها لم تكن حزينة.. كانت امرأة تعرف ثمن كل خطوة.. الفيلم، للأسف، أزاح هذا البعد بالكامل.
الست في الفيلم.. إنسانة تبحث عن التعاطف
النسخة السينمائية من أم كلثوم ـ كما قدمتها منى زكي ـ هي امرأة في حالة شرح دائم.. تشرح خوفها، تشرح ألمها، تشرح ضعفها.. لكن أم كلثوم لم تشرح نفسها لأحد.. كانت تفعل، فيفهم الناس.. الفارق بين الفعل والشرح هو الفارق بين الأسطورة والدراما العادية.
منى زكي.. أداء صادق.. في اتجاه خاطئ
منى زكي ممثلة موهوبة بلا جدال.. لكن الموهبة لا تكفي حين تكون البوصلة مختلة.. أداؤها جاء قائماً على الانفعال الداخلي المكشوف، بينما أم كلثوم كانت سيدة الانفعال المكتوم.. النظرات، الحركات، نبرة الصوت.. كلها تؤدي امرأة معاصرة تعيش قلقاً وجودياً، لا امرأة تاريخية صنعت يقينها ببطء.. الفشل هنا ليس فنياً بقدر ما هو رؤيوي.

الأب.. من الراعي إلى المستغل
أكثر التأويلات صدمة في الفيلم هو تقديم الشيخ إبراهيم البلتاجي بوصفه أباً استغلالياً.. صحيح أن التاريخ لا يخلو من تعقيدات، لكن الفيلم ذهب بعيداً في القسوة، دون سند درامي كافٍ.. تحويل الأب إلى رمز للنهب والسيطرة يسهل تفسير الصراع، لكنه يُفقر الشخصية ويبسّط التاريخ.. “حين تُبسّط التاريخ، تفقد قدرتك على فهمه”.
الرجال في حياة الست.. من الشراكة إلى العبء
أحمد رامي، القصبجي، شريف صبري.. كلهم في الفيلم يتحولون إلى مصادر ضغط أو خذلان.. بينما الحقيقة أن أم كلثوم أدارت هؤلاء الرجال، لا العكس.. كانت تعرف كيف تستخدم الحب دون أن تقع فيه، وكيف تحتفظ بالشراكة دون أن تفقد السيطرة.. الفيلم قلب المعادلة.
السياسة.. حضور خجول لامرأة كانت دولة
علاقة أم كلثوم بالسياسة كانت معقدة وذكية.. لم تكن بوقاً، ولم تكن معارضة.. كانت صوتاً وطنياً مستقلاً.. الفيلم يمر على هذا البعد مرور الكرام، وكأن السياسة عبء إضافي على امرأة مرهقة، لا ساحة لعب أتقنت قواعدها وفرضت فيها شروطها.. وهنا يتجلى ظلم آخر، لا يقل خطورة عن تشويه الشخصية الإنسانية.. تحييد أم كلثوم سياسيًا، أو بالأدق، تسطيح وعيها السياسي.
كانت تدرك، بحدس نادر، طبيعة اللحظة التاريخية، وتعرف متى تغني، ولماذا تغني، ولمن يصل صوتها.. لم تكن مجرد صوت يواكب الدولة، بل جزء من خطابها الرمزي، دون أن تفقد استقلالها.
بعد 1952، لم تسعَ إلى القرب من السلطة، بل جعلت السلطة تسعى إليها.. وبعد 1967، لم تُغنِّ من باب التطييب أو التهدئة، بل من موقع الشراكة الوطنية في ترميم الروح العامة..
الفيلم، للأسف، تعامل مع هذا البعد كحاشية درامية، لا كأحد أعمدة الشخصية.. لم نرَ امرأة تقرأ السياسة، بل امرأة تُرهقها السياسة..
والفرق بين الاثنين هو الفرق بين الفاعل والمتلقي.
أين اختفت الفكاهة؟ أين ذهبت السخرية الذكية؟
أم كلثوم، خلافًا للصورة الشائعة، لم تكن امرأة عابسة.. كانت صاحبة نكتة لاذعة، وسخرية خفيفة الظل، وحضور اجتماعي ذكي.. كانت تعرف كيف تُربك محاوريها بابتسامة، لا بانفعال.. الفيلم حذف هذا البعد بالكامل.. حوّلها إلى امرأة ثقيلة الظل، مشغولة بالهم أكثر من الذكاء.. وهذا ليس مجرد اختيار درامي، بل إفقار متعمد للشخصية.
“مستوحى من أحداث حقيقية”.. الجملة التي تفضح أكثر مما تحمي
وجود هذه الجملة على بوستر الفيلم ليس تفصيلاً شكلياً.. إنها اعتراف ضمني بأن ما سنراه ليس الحقيقة، ولا حتى محاولة أمينة للاقتراب منها.
لكن السؤال..
إلى أي مدى يحق للفن أن “يستوحى” حين يتعلق الأمر برمز بهذا الحجم؟
الاستلهام لا يعني إعادة كتابة الشخصية وفق مزاج معاصر، ولا يعني إسقاط هواجس زمننا على زمن لم يكن يعرفها.. حين يتحول الاستلهام إلى ذريعة، يصبح التاريخ مادة خام للتصرف الحر،
وتفقد السيرة معناها.
أين تكمن المشكلة الحقيقية؟
المشكلة ليست في أن الفيلم قدّم أم كلثوم إنسانة.. ولا في أنه نزع عنها بعض الهالة.. المشكلة أنه استبدل الهالة بهشاشة، والقوة بالارتباك، والسيطرة بالشرح.. أم كلثوم لم تكن بحاجة إلى أن نتعاطف معها، كانت بحاجة فقط إلى أن نفهمها.. الفيلم أراد دموعاً،
بينما كانت الحقيقة تحتاج عقلاً.
مقارنة لا مفر منها.. الست التي كانت والست التي صارت
الست الحقيقية.. كانت تعرف ماذا تريد.. متى تقول نعم.. ومتى تصمت.. ومتى تغني كأنها تتكلم باسم أمة
الست في الفيلم.. تسأل أكثر مما تقرر.. تتألم أكثر مما تُدير.. تشرح أكثر مما تفعل.. الأولى صنعت تاريخاً، والثانية تسكن دراما.
ياللي ظلمتوا الست.. لم تظلموها وحدها
الظلم الواقع على أم كلثوم في هذا الفيلم لا يخصها وحدها.
هو ظلم لذاكرتنا الثقافية، ولفكرة المرأة القوية التي لا تحتاج إلى أن تُكسر كي تُفهم، ولا إلى أن تُضعف كي تُحب..
ياللي ظلمتوا الست
لم تفعلوا ذلك لأنكم اقتربتم منها، بل لأنكم اقتربتم بلا بوصلة،
ونظرتم إليها بعين زمن لم يفهم زمنها.. أم كلثوم لم تكن امرأة تبحث عن ذاتها.. كانت ذاتاً كاملة.. والأساطير لا تُحكى بمنطق الضعف،
بل تُفهم بمنطق السلطة الهادئة.







