
شهد العالم خلال العقود الأخيرة تطورات كبيرة في السياسات الصحية العامة، حيث سعت الدول إلى حماية
المواطنين من الأمراض المزمنة والسارية على حد سواء، بما في ذلك أمراض القلب والسمنة والأمراض
الناتجة عن التلوث البيئي وشملت هذه السياسات فرض قيود على الأغذية عالية السكر والدهون،
وتنظيم سلامة الغذاء والمياه، وإطلاق حملات وطنية لمكافحة السمنة وأمراض القلب، إضافة إلى
تبني سياسات صارمة للوقاية من الأمراض المعدية مثل فيروس نقص المناعة البشرية وكوفيد-19.
لكن، على الرغم من هذا التقدم، لم تحقق سياسات التبغ والنيكوتين نفس القدر من الابتكار التنظيمي،
وظلت في كثير من الدول رهينة نهج المنع الشامل، رغم توفر بدائل أقل خطورة أثبتت الدراسات العلمية
فعاليتها في الحد من المخاطر الصحية.
تحديات السياسات الصحية لمنتجات التبغ والنيكوتين
أوضح توماس غوميز، السياسي والاقتصادي الإسباني، في مقاله بصحيفة LA RAZÓN، أن سياسات
المنع الشامل للتبغ غالبًا ما تنطلق من منطلقات أيديولوجية أكثر من كونها علمية وأشار إلى أن الإفراط
في القيود والضرائب على منتجات النيكوتين أدى تاريخياً إلى نتائج عكسية، مثل تفشي التهريب في
ثمانينيات القرن الماضي في غاليسيا بإسبانيا كما أن صناعة التبغ في إسبانيا تشكل 21.4% من قطاع
التصنيع و2.6% من الناتج المحلي الإجمالي، ما يجعل تجاهل الجانب الاقتصادي والاجتماعي في سياسات
المنع الشامل مخاطرة كبيرة وأظهرت البيانات أن استهلاك التبغ القانوني ارتفع في عام 2024 إلى 1.4 مليار
وحدة، مع خسائر مالية تجاوزت 263 مليون يورو في الإيرادات الضريبية وتشير تقارير الاتحاد الأوروبي إلى أن
فرنسا شهدت ارتفاع تجارة السجائر غير القانونية إلى 18.7 مليار وحدة عام 2024 نتيجة فرض ضرائب قاسية
على منتجات التبغ دون تمييز بين التقليدي والبدائل، فيما تضاعف التهريب في هولندا بنسبة 14% خلال عام واحد.
الابتكار كحل لتقليل المخاطر الصحية
تشير الدراسات العلمية إلى أن منتجات النيكوتين البديلة، مثل السجائر الإلكترونية والتبغ المسخن
وأكياس النيكوتين، تقلل المخاطر الصحية بنسبة 70% إلى 90% مقارنة بالتدخين التقليدي، كونها
تقضي على عملية الاحتراق التي تنتج المواد السامة وأوضح غوميز أن استخدام هذه البدائل يقلل
من المخاطر على المستهلك ومن حوله، مشدداً على أن السياسات التي تعامله بنفس التشديد
الموجه ضد السجائر التقليدية تفقد معناها العلمي والمنطقي، وتدفع المدخنين نحو السوق السوداء.
نموذج السياسات الصحية المزدوجة: الوقاية والتنظيم الذكي
لتحقيق السياسات الصحية فعالة، يقترح الخبراء اتباع نهج مزدوج:
مسار الوقاية الصارم منع وصول القاصرين إلى منتجات النيكوتين من خلال رقابة صارمة
على التسويق والبيع، مع حملات توعية مجتمعية شاملة.
مسار التنظيم العلمي للبالغين تمكين المدخنين البالغين من الوصول إلى بدائل أقل خطورة
ضمن إطار رقابي شفاف يشجع على الابتكار والبحث العلمي.
هذا التوازن لا يحمي الصحة العامة فحسب، بل يرسخ ثقافة المواطنة المسؤولة والاختيار الواعي
ويضمن استدامة القطاع الاقتصادي لمنتجات النيكوتين.
التجارب الدولية: السويد واليابان نموذجاً للنجاح
أظهرت التجارب الدولية أن الاستثمار في الحد من المخاطر لا يقل أهمية عن الصحة العامة ففي السويد،
أدت سياسات تنظيم منتجات النيكوتين البديلة إلى انخفاض معدل التدخين إلى أقل من 5%، وهو الأقل
في أوروبا، مؤكدة أن الابتكار المنظم بالأدلة يمكن أن ينقذ الأرواح أكثر من السياسات العقابية التقليدية.
الطريق أمام إسبانيا والدول الأوروبية
تواجه إسبانيا وغيرها من الدول الأوروبية مفترق طرق بين استمرار المنع الشامل الذي يغذي السوق
غير القانونية، أو اعتماد مقاربة علمية مبتكرة تشجع البحث والابتكار وتبني القرارات على الأدلة وليس الأيديولوجيا.
يخلص غوميز إلى أن تبني استراتيجية الحد من المخاطر يتيح حماية الشباب، وتمكين المدخنين من بدائل أقل ضرراً،
مع الحفاظ على التنافسية الاقتصادية والابتكار في قطاع يُقدر بمليارات اليوروهات سنوياً.







