فلسفة الحب: بين العشق والإيثار وصداقة الخير

ليست هناك عاطفة استحوذت على اهتمام البشر في كل العصور، مثل عاطفة “الحب” تلك العاطفة الإنسانية النبيلة وقد اجمع الفلاسفة على اعتبار القيم ثلاثا، وهي الحق، الخير، الجمال.
والحب هو القيمة الأسمى التي تخلع على تلك القيم كل ما لها من قيمة.
وهو “شغل الناس الشاغل” منذ الأزل: واهتم به، الآدباء والفلاسفة والمفكرين، وعلماء النفس والاجتماع وقال عنه دانتي ان “الحب قوة كونية كبرى، واحتفى به الشعراء والفلاسفة العرب ولهم رسائل في العشق والنساء والحب ظاهرة إنسانية معقدة، تهدف للتغلب على الانعزال النفسي، والتحرر من الانانية او النرجسية، والرغبة في التلاقي والاتحاد مع الآخر، مع الابقاء في الوقت ذاته على الثنائية.
ومن شروط الحب، توافر التجانس والتبادل، والتوافق بين المحب والمحبوب هذا مع التنوع والاختلاف في السمات الشخصية بينهما، بحيث يكمل الواحد منهم الآخر، ويتكون من اتحادهما تكامل انساني حقيقي.
ومن اشباه الحب حب الذات والشفقة على الآخر، والتعاطف و هو استشعار “بالأخر” وهو وظيفة حيوية هامة، تشعرني بأن ثمة تساويا في القيمة بين “ذاتي” و”ذوات” الآخرين والحب علاقة شخصية تقوم على التبادل بين “الأنا” و”الأنت” لتحطيم التمركز الذاتي، ولكي ينعم الجميع بعذوبة “الحياة المزدوجة” التي تقوم على الاخذ والعطاء.
انواع الحب
وأول صورة من انواع الحب هي “الأمومة” وهي ” امتزاج وجداني” بين الأم، وبين الطفل، وهو حب غير مشروط يقوم على العطاء اكثر مما يقوم على الأخذ وليس هناك أسمى من حب الام.
النوع الثاني هو ” الأخوة” او “حب الإنسان لأخيه الإنسان” فالعلاقات العائلية لا تقتصر على علاقة الآباء والامهات بأبنائهم، بل انها تتسع لتشمل ” العلاقة الوجدانية” التي تنشأ في كنف الأسرة الواحدة بين الأخ وأخيه وقد يقوم في الأسرة الواحدة خلاف ذلك، ولكن هذا لا يمنعنا من القول بأن الأصل في الصلات الأخوية هو التجانس والإئتلاف.
والانسان في الحقيقة، لا يستطيع أن “يحب” إلا اذا كان يمتلك أن يهب او يمنح. فالحب عطاء، وهكذا يكون الحب في جوهرة صورة من صور الخلق او الإبداع، وهو ما يدفع لأن نمضي نحو الآخر، وهذا ما عناه نيتشه حينما قال في حديثة عن إرادة القوة: “إن الفرد القوي بكل معاني الكلمة، إنما هو ذلك الذي يملك من النبل وعظمة النفس ما يجعله يمنح، دون ان يتوقع الأخذ.
والحب في نهاية الامر فضيلة، فهو جوهر الإرادة الخيرة، بل ينبغي ان نضيف الى ذلك ان النية الطاهرة هي في صميمها نية مُحبة.
النوع الثالث من انواع الحب، هو ما يتسامى الى درجة العبادة (او حب الانسان لله) وهو مايشير إلى الإفراط في الميل، او المبالغة في العشق، فالمحب يعتبر نفسه بمثابة “عبد” يأتمر بأوامر المحبوب.
وأهل الحب وجدوا في نزوعهم نحو الاتحاد بالمحبوب، ما يشبه نزوع المتصوف نحو الاستغراق في الله، فلم يترددوا في اعتبار الحب صورة من صور العباده.
ويتشكل الحب في انماط ثلاث: إيروس (او العشق)، أجابيه (او المحبة)، فيليا (أو الصداقة)
أنماط الحب
والنمط الاول (إيروس) أو العشق هو النمط اليوناني من أنماط الحب.
وكلمة “إيروس” تستعمل عادة للإشارة الى “الحب الجسدي” في حين جرت العادة باستخدام كلمة أجابية للإشارة إلى “الحب الروحي” والاصل في استعمال كلمة “إيروس” ان اليونانيين كانوا يجمعون بين “إيروس” اله الحب، وبين “ديونسيوس” اله الخمر.
فكانوا يسرفون في الحب والشراب، وكانوا يتخذون من الحب مطية للاستمتاع بمباهج الحب.
ومن هنا اصبح “الإيروس” لفظا جنسيا يشير إلى معاني العشق الحسي العنيف وقد خصص العرب لفظ العشق للإشارة إلى “مجاوزة الحد في المحبة” وأسموا هذا النمط العنيف من الحب (أو الهوى) بإسم العشق.
الصورة الثانية من أنماط الحب هي أجابيه (او المحبة) والأجابيه يقوم على التبادل والمشاركة، في حين أن الايروس يقوم على العشق الذاتي والإندفاع المستمر نحو الآخر.
ويرتقى الأجابيه لكي يكون “ديانة الحب” ويصبح مثله الأعلى هو الوصول إلى حالة السكينة القلبية التي تشبه إلى حد كبير ما في الزواج من استقرار نفسي وهذا هو الفارق الكبير بين “الإيروس” و”الأجابيه” لأن “الإيروس يستند إلى التمركز الذاتي، في حين ان الأجابيه يستند إلى التضحية بالذات ويرتكز على فلسفة الإيثار، ويقوم على التعقل والاستقرار والوفاء المتبادل، وجعل من الحب رسالة الإحسان والرحمة والحياة.
أما النمط الثالث من أنماط الحب، فهو فيليا (أو الصداقة). والحقيقة، أن الصداقة لا ترقي إلى مستوى الحب، وإنما هي صورة من صور “التآلف” أو “المودة” أو “التجانس” وهو علاقة شخصية تقوم على التبادل بين الأنا والأنت.
ويقسم أرسطو الصداقة إلى أنواع ثلاثة:
- صداقة تقوم على المنفعة او الفائدة.
- صداقة تقوم على اللذة والمتعة.
- صداقة تقوم على الخير أو الفضيلة.
ولما كان من طبيعة المنفعة أنها متقلبة متحولة، فإن الصداقة القائمة عليها لا يمكن ان تكون ثابتة مستديمة وأما صداقة اللذة فإنها صداقة أنانية هوائية، خصوصاً انها لا تنشأ إلا بين الشباب الطائش المتهور أما الصداقة الحقيقية التي تتصف بطابع الدوام والاستقرار، فهي تلك تقوم بين الأخيار من الناس، لأنهم جميعاً ينشدون موضوعاً واحداً بعينيه، ألا وهو “الخير”، وهنا لا يريد الصديق لصديقه إلا الخير، فلا تكون صداقة الواحد منهما للآخر ناتجة عن أسباب أو بواعث، بل تكون موجهة نحو الصديق نفسه لذاته، ولابد لمثل هذه الصداقة التي تقوم على الخير، من أن تكون ثابتة أو دائمة، لأن “الخيرية” في رأي أرسطو، تنطوي في ذاتها على مبدأ استقرار أو دوام. وحقا فإن صداقة الأخيار بين الناس تحقق المنفعة المشتركة والمتعة المتبادلة وهو ما يعود على المجتمع بالنفع الكبير.
والحب بمعناه الصحيح، ليس مجرد عاطفة نسبية تترتب على حساب نفعي، بل هو كشف مطلق، وإلهام مفاجئ، ونتيجة بلا مقدمات!..
وليس من شأن المحب أن يتخير فيما يقدم له، بحيث (يغربل) الصفات المعروضة أمامه لكي يأخذ بعضها ويطرح البعض الآخر، وإنما يجئ الحب فيختار شخصية محبوبة بأكملها، ويقبل كل ما تنطوي عليه من محاسن وعيوب فالحب ليس عملية اختيار أو انتقاء لبعض الصفات أو الطباع في كلٍ واحد، بل هو انتخاب إجمالي لهذا الكل باعتباره شخصاً حياً هو غاية في ذاته فالمحب يتقبل محبوبه بشخصيته باكملها، على ما هو عليه، دون أن يقف من محبوبه موقف المصلح أو المرشد او الناصح !.. والطابع الديناميكي للحب هو الكفيل وحده بتحقيق عملية الترقي الطبيعي للمحبوب والظاهر أن القانون الاسمى الذي يتحكم عادة في مصير البشر هو أن كلاً منا لا يظفر في الحياة إلا بما هو أهل له، والنفس الطاهرة قلما تتعلق إلا بنفس أخرى طاهرة أو هكذا يجب أن تكون، والحب أخطر حدث في حياة الإنسان لأنه يمس صميم شخصيته وجوهر وجوده.