
آفة حارتنا الإلحاد
بدأ من قبل الميلاد والحضارة اليونانية وضعت أسسه
عدم الحصول على إجابات مقنعة أول بداية طريقه
تعالي بعض العلماء سبب عزوف الشباب عن المناقشة والحصول على العلم
إثبات أنه لا صراع بين العلم والدين أول خطوة في طريق مواجهة الإلحاد
آفة حارتنا الإلحاد
يتعامل كثيرون مع ظاهرة الإلحاد من منطلق عدائي، وهذا التعامل الخاطئ ربما هو السبب في انتشار الظاهرة، بل وجهر البعض بها، في حين أن الأمر لا يخرج عن كونه موقف فكري نابع من تجربة عقلية وشخصية معقدة، وليس مجرد إنكار للدين كما يُشاع.
من هذا المنظور، تبدو ظاهرة الإلحاد واحدة من أكثر الظواهر الفكرية حساسية وتشابكًا، إذ تتداخل فيها عناصر اجتماعية وثقافية ونفسية، وحتى سياسية. ومع التحولات الكبرى التي شهدها العالم العربي خلال العقود الأخيرة، بدأت هذه الظاهرة تطفو إلى السطح، جهرًا بعد أن كانت همسًا، معلنة عن نفسها داخل فئات عمرية وتعليمية واجتماعية متباينة.
الظاهرة وجدليتها
حاول الكثير من الباحثين والمراقبين دراسة أسباب الظاهرة وتداعياتها على المجتمعات العربية. ولعبت وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي دورًا محوريًا في تسليط الضوء على ظاهرة الإلحاد في العالم العربي. ومن خلال المنصات الرقمية، تمكن الملحدون من التعبير عن آرائهم ومشاركة تجاربهم، وساهم ذلك في كسر حاجز الصمت المحيط بالموضوع.
في حارتنا، كما في كل حارة عربية، كان الإيمان موروثًا لا يُسأل ولا يُناقش. لكن فجأة، بدأت الأسئلة تتكاثر، وبدأت بعض الأجوبة تُقابل بالصمت أو بالغضب أو بالهروب. وشيئًا فشيئًا، تسرّب الإلحاد — أو ما يشبهه — إلى الجيل الجديد.
الإلحاد، هنا، لم يكن دومًا قرارًا فكريًا باردًا، بل أحيانًا كان نتيجة ألم نفسي، أو صراع داخلي، أو شعور بالعجز والخذلان. من هنا، يصبح السؤال الأهم: هل الإلحاد في مجتمعاتنا حالة فكرية بحتة؟ أم أنه عرض نفسي لحالة أعمق؟
علم النفس لا ينظر إلى الإيمان أو الإلحاد كقناعات فقط، بل أنماط شخصية لها جذورها في الطفولة، بداية من الاحتياج للأمان، إلى العلاقة مع الأب أو الأم، وفي تجارب الصدمة أو الفقد أو حتى التسلّط الديني. في هذا المقال نحاول أن نُعيد مناقشة الظاهرة من منظور علم النفس.
الأسئلة الفلسفية الكبرى لم تعد حكرًا على المثقفين، بل أصبحت مادة يومية في المنشورات على “فيسبوك” و”تيك توك”. كلمات مثل “عبث”، “لا معنى”، و”الكون بلا عدالة” تتكرر، لا كبراهين علمية، بل كلمات ناتجة عن اختناق داخلي. كثيرون من هؤلاء لا يعرفون أنهم لا يبحثون عن دين جديد بل فقط عن شعور بالأمان والانتماء والرحمة.
نظرة تحليلية
من النادر أن يلجأ شخص إلى الإلحاد دون أن يكون قد خاض رحلة فكرية طويلة وشاقة، ولم تعجبه أمورًا وبالتالي خضعت لتحليله وحكمه الشخصي.
ينطلق الفرد بقراءة موسعة تقوده إلى طرح أسئلة وجودية معقدة، ويستند في تحليله إلى ما يُعرف بالشك الديكارتي، وهو منهج فلسفي يقوم على التشكيك في كل شيء حتى يتم التوصل إلى يقين عقلي لا يمكن دحضه. وهذا المنهج يدفع الفرد إلى إعادة النظر في معتقداته السابقة ومحاكمتها بعقله لا بوراثته. ومع تراكم الأسئلة دون إجابات مُرضية، خاصة عندما يُقابل بالتجاهل أو التعالي من بعض رجال الدين أو المتخصصين تنمو لديه قناعة بأن ما لديه من شك أقرب إلى الحقيقة مما يُقدَّم له. ويتولد نوع من التمرد الوجودي يماثل ما طرحه ألبير كامو، مصحوبًا بشعور بالحسرة على سنوات يعتقد أنه قضاها في ضلال، ويغدو الجهر بالإلحاد، في نظره، تعبيرًا عن استقلاله الفكري، وربما انتقامًا رمزيًا من منظومة لم تستوعب أسئلته.
هنا لا بد أن نقول إن مشوار الألف ميل في الإلحاد يبدأ بخطوة التمرد، والتي لا تجد من يهذبها حسب المرحلة العمرية للإنسان.
علم النفس: ما وراء الشك؟
من منظور نفسي، تظهر العديد من حالات الميل إلى الإلحاد نتيجة لاضطرابات نفسية غير مشخصة، مثلاً، الشاب الذي نشأ في بيت ديني صارم يغيب عنه الحوار والتفاهم، أو من تعرض لعنف باسم الدين، قد يربط اللاوعي بين الله و”القسوة”، فيرفض الأول هربًا من الثاني. وتشير دراسات حديثة في علم النفس الوجودي تؤكد أن غياب “المعنى الشخصي” في الحياة يعد هو من أكبر محفزات الإلحاد عند الشباب. فالأفراد الذين لم يجدوا معنى حقيقيًا للحب، أو العدالة، أو الغفران في بيئتهم القريبة، غالبًا ما يشككون في وجود تلك المفاهيم في المطلق. بما في ذلك فكرة الإله ذاته.
تاريخ الإلحاد
رغم شيوع الاعتقاد بأن الإلحاد بدأ مع فلاسفة اليونان، إلا أن بعض الشواهد تشير إلى جذوره في الهند نحو عام 1000 ق.م، حيث ظهرت أفكار تشكك في وجود الخالق. وتبعتها البوذية بعد ذلك بعدم تقديم تصور واضح للإله. وفي اليونان القديمة، ظهرت فكرة “أزلية المادة” على يد فلاسفة ما قبل سقراط، الذين رأوا أن الكون أزلي ويتكوّن من عناصر أولية كالهواء أو النار، دون حاجة إلى خالق. لكن هذه الرؤى تراجعت بعد انتشار المسيحية وسيادة فكرة الخلق من العدم.
لاحقًا، أعاد العلم طرح الأسئلة القديمة بوجه جديد. وفي القرن الثامن عشر، وضع نيوتن قوانين الجاذبية، ما دفع بعض المفكرين للاعتقاد أن الكون يعمل كآلة مستقلة لا تحتاج لإله. وتعمقت هذه النظرة في القرن التاسع عشر مع ظهور الماركسية ونظرية داروين.
غير أن القرن العشرين قلب المعادلة مجددًا؛ فالاكتشافات العلمية، خاصة نظرية الانفجار العظيم، أكدت أن للكون بداية، مما أعاد الجدل حول وجود قوة خالقة. ورغم ذلك، عاد الإلحاد للواجهة في صورته المعاصرة، مع مفكرين يتمتعون بكاريزما إعلامية، ما جذب فئة من الشباب الباحث عن “حرية بلا قيود”
أسباب انتشار الفكر الإلحادي
- نظريات التطور أدت إلى تساؤلات حول الخلق والإيمان الديني.
- اكتشافات علم الأعصاب التي قدمت تفسيرات مادية للوعي والإدراك، مما قلل من الحاجة إلى تفسيرات دينية عند البعض.
- الانفتاح الثقافي والعلمي قد يدفع البعض إلى التشكيك في المعتقدات التقليدية والبحث عن بدائل.
- شهدت بعض الدول العربية صراعات وحروب ذات طابع ديني طائفي أدت إلى نفور البعض من المؤسسات الدينية.
- يرى بعض الشباب تناقضًا بين التعاليم الدينية والممارسات الاجتماعية، مما يدفعهم إلى البحث عن هويتهم بعيدًا عن الأطر الدينية التقليدية.
- القمع الديني والاضطهاد الاجتماعي يؤدي إلى رد فعل عكسي، حيث يتبنى الأفراد الفكر الإلحادي كوسيلة للتحرر من القيود المفروضة عليهم.
- تبني بعض الدول للعلمانية أدى إلى تهميش دور الدين في الحياة العامة.
- التعرض لتجارب مؤلمة أو صادمة قد يؤدي إلى فقدان الثقة في الدين.
- كشفت دراسة علمية بعنوان “النمط النفسي للملحد” وشملت 320 شخصًا من الذكور في أمريكا، أن ما يتعدى نصف عدد المبحوثين تعرضوا لفقد أحد والديهم قبل بلوغهم سن العشرين، وأنهم عانوا من مشاكل نفسية واجتماعية في حياتهم المبكرة؛ وهو ما انعكس على رفضهم وجود إله، وأوصت نتائج الدراسة بضرورة ملاحظة الواقع النفسي للملحدين بشكل عام.
كيفية مواجهة ظاهرة الإلحاد في المجتمعات العربية
لا يمكن مواجهة الإلحاد بأسلوب القمع أو التخويف، بل يتطلب الأمر فهمًا عميقًا لأسباب الظاهرة وتقديم حلول عقلانية وإنسانية تحترم تساؤلات الشباب وتمنحهم إجابات مقنعة، ومواجهته تحتاج إلى استراتيجيات متعددة الأبعاد تهدف إلى معالجة الأسباب الجذرية، ومنها:
- تعزيز التعليم الديني والفكري المتوازن عن طريق تقديم مناهج تعليمية تتجاوز التلقين إلى التحليل والنقاش، مما يساعد الشباب على تكوين قناعات راسخة بناءً على المعرفة لا الوراثة.
- تنمية التفكير النقدي من خلال إعطاء مساحة للطلاب لطرح الأسئلة ومناقشة القضايا الدينية والعلمية بحرية.
- التأكيد على التوافق بين الدين والعلم حيث أن الكثير من الشباب ينجذبون إلى الإلحاد بسبب الاعتقاد بأن الدين يتعارض مع الحقائق العلمية.
- تحسين الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية.
- تقديم محتوى إعلامي ودعوي جذاب ومقنع بدلًا من ترك الفضاء الرقمي مفتوحًا للمحتوى الإلحادي.
- المعالجة النفسية للصدمة والخذلان فالكثير من الأفكار المتطرفة تنمو في تربة مشاعر غير معالجة، لا في نقاشات فلسفية.
- الحوار البناء مع الأفراد الذين يمرون بأزمات إيمانية.
إحصائيات وأرقام
رغم صعوبة الحصول على إحصاءات دقيقة بسبب حساسية الموضوع وخوف الكثير من الملحدين من الإفصاح عن معتقداتهم، تشير تقارير إلى تزايد الظاهرة في العالم العربي. فقد أشار تقرير مركز بيو للأبحاث (2019) إلى ارتفاع نسبة غير المتدينين في بعض الدول العربية، فيما كشفت بيانات مركز “ريد سي” أن 32.4% من ملحدي مصر تتراوح أعمارهم بين 15 و24 عامًا، و36% بين 25 و34 عامًا، أغلبهم من الذكور. كما أوضح أسامة الحديدي، مدير وحدة “بيان” بالأزهر، أن الفئة الأكثر تأثرًا بالشبهات الإلحادية تبدأ من سن 14 عامًا، مؤكدًا استقبال أكثر من 200 ألف حالة استفسار منذ 2018. وقدّر أستاذ الفقه المقارن أحمد كريمة عدد الملحدين في مصر بأكثر من 3 ملايين، ولذلك لابد من تجديد الخطاب الديني طبقا لما دعا له الرئيس عبد الفتاح السيسي.
“وأخيرًا، نحتاج أن نفهم لا أن نحكم، إذ إن الإلحاد في حارتنا ليس ناتجًا فقط عن فكرٍ غربيٍ دخيل، بل احياناً عن معاناة وُلدت في بيوتنا ونضجت في زوايا سكوتنا. فربما كانت الآفة الحقيقية هي الصمت عن اضطرابات نفسية عميقة”