خارجي

سباق نووي.. أمريكا تُراهن على المستقبل في مواجهة التفوق الصيني

كتب: عاطف الهوارى

في الوقت الذي تُعيد فيه الولايات المتحدة تموضعها الاستراتيجي في ميدان الطاقة النووية، تتصاعد وتيرة السباق العالمي المحموم نحو “عصر نووي جديد”، تدفعه الحاجة إلى مصادر طاقة منخفضة الكربون ومتجددة، مدفوعة بزحف الذكاء الاصطناعي ومخاوف التفوق الجيوسياسي الصيني. وما بين الإخفاقات السابقة في مشاريع المفاعلات النووية، وسعي الصين لاحتكار سوق الطاقة النووية عالميًا، تجد أميركا نفسها عند منعطف تاريخي حاسم.

أوك ريدج.. من مانهاتن إلى المستقبل

في قلب هذا التحول، تقع مدينة أوك ريدج في تينيسي، الملقبة بـ”المدينة الذرية”، والتي كانت قاعدة لمشروع مانهاتن النووي. اليوم، تعود المدينة إلى صدارة المشهد عبر مشروع طموح تقوده شركة “ستاندرد نيوكليار” الناشئة، والتي تضم أكثر من 40 عالماً يعملون دون أجر تقريباً، مدفوعين بإيمانهم بقدرتهم على إحداث ثورة في تصميم المفاعلات النووية الصغيرة (SMRs) الآمنة والمدعومة بوقود متقدّم يُعرف باسم “تريسو” (TRISO).

الجهد لا يتعلق فقط بالإنتاج النووي، بل أيضاً بالاستقلال الاستراتيجي، إذ تسعى واشنطن إلى تقليل اعتمادها على الصين وروسيا في اليورانيوم المخصب، المورد الأساسي لتشغيل المفاعلات.

قوة الذكاء الاصطناعي والطاقة: تحالف استثنائي

يتزامن هذا المسار مع ارتفاع احتياجات الذكاء الاصطناعي من الطاقة، إذ يتطلب تدريب أنظمته المتقدمة طاقة تعادل استهلاك مدينة كاملة. هنا تظهر الطاقة النووية كحل مثالي: منخفضة الكربون، مستدامة، وآمنة. ولذلك، بدأت شركات مثل “مايكروسوفت”، و”ميتا”، و”أوبن إيه آي” في الاستثمار بقوة في إحياء المفاعلات القديمة وتطوير نماذج معيارية جديدة.

مليارديرات وادي السيليكون، من أمثال بيل غيتس وبيتر ثيل وسام ألتمان، باتوا يقودون هذه العودة النووية، عبر تمويل مشاريع واعدة تراهن على تصاميم مدمجة تعتمد على الخبرة التاريخية وتُقلل من مخاطر الحوادث.

العقبات المتراكمة: إخفاقات، نفقات، وبنية تحتية مهترئة

لكن هذا الطموح لا يخلو من التحديات. لقد فشلت محاولات أميركا السابقة في إحياء الصناعة النووية بسبب تضخم التكاليف، سوء الإدارة، والحوادث البيئية، وأُهدرت مليارات الدولارات. اليوم، رغم التحولات الإيجابية، فإن إنتاج الطاقة النووية في الولايات المتحدة لا يزال أقل من مستوياته قبل عقد.

كما أن سلسلة الإمداد الأميركية لليورانيوم تآكلت، وتُسيطر روسيا على نحو نصف سوق العالم من الوقود النووي المخصب، بل وتوفر ربع ما تحتاجه الولايات المتحدة. هذا ما يجعل أي مشروع أميركي عرضة للاهتزاز ما لم يُعاد بناء البنية التحتية لسلسلة التوريد النووية من الصفر.

الصين: قوة نووية صاعدة بثقة هندسية

في المقابل، تتقدم الصين بخطى ثابتة، وتبني حاليًا 31 مفاعلاً جديدًا، ما يعادل نصف المشاريع النووية الجارية في العالم، وتخطط لبناء 40 مفاعلاً إضافياً خلال العقد المقبل. هذا التوسع لا يقتصر على الإنتاج، بل يمتد إلى تطوير تقني مستقل يسعى لتقليل الاعتماد على التكنولوجيا الغربية.

كما تستثمر بكين في تصدير نماذجها الخاصة إلى الدول النامية، ما يمنحها نفوذًا دبلوماسيًا وطاقويًا كبيرًا، في الوقت الذي تكافح فيه واشنطن لإقناع الرأي العام ومجتمع الأعمال بأن العودة إلى النووي تستحق المجازفة.

البنتاغون والقطب الشمالي: النووي كسلاح جيوسياسي

الاهتمام العسكري الأميركي ليس بعيدًا عن هذا السباق. وزارة الدفاع الأميركية تسعى إلى نشر مفاعلات صغيرة لتغذية القواعد البحرية والجزر النائية بالطاقة، خاصة في المناطق الاستراتيجية مثل القطب الشمالي والمحيط الهادئ. هذه الرؤية تعكس وعياً بأن امتلاك الطاقة الآمنة والمستقرة قد يكون عامل تفوق في النزاعات المستقبلية، سواء كانت ساخنة أم باردة.

هل النجاح حتمي؟ بين الرهان والمخاطرة

رغم ضخّ مليارات الدولارات، يبقى مستقبل هذا “العصر النووي الأميركي” محفوفًا بالمخاطر. فنجاح شركة واحدة مثل “ستاندرد نيوكليار” لا يعني بالضرورة نجاح المنظومة بأكملها، ما لم تتكامل مكونات التوريد، والإنتاج، والتخصيب، وتقبل المجتمع المحلي.

لكن، كما قال كورت تيراني، المدير التنفيذي للشركة: “لا أرى بديلاً آخر… في مرحلة ما، سننفد من الغاز”.